القائمة الرئيسية

الصفحات

اخر الاخبار

كتب: عماد ماضي

في عام ١٩٢٦م عرضت شركة انتاج ألمانية على الممثل الشاب يوسف بك وهبي أن يكون بطلا لفيلم عن السيرة النبوية، مجسدًا فيه شخصية النبي محمد، ووافق، ثم تراجع عن موافقته بعد تهديد الملك فؤاد له بسحب جنسيته منه، إذا أقدم على هذا العمل.

هذا بالطبع تراجع محمود لصاحبه، بصرف النظر عن سببه، والتراجع عن الخطأ عامة.. يبني للمتراجِع تقديرًا واحترامًا، بل وَوُدًّا أحيانًا، في النفوس الصالحة، ولا يَلقى مجرد القبول لدى المريضة قلوبهم، هؤلاء الذين قال عملاقنا المتنبي فيهم:

ومن يكن ذا فمٍ مرٍّ مريض
يجد مرًّا به الماء الزلالا

وأنت حين تخاصم صديقًا، وحين يطلَّق اثنان عن بعضهما، وفي المشاجرات بين الجيران، وعند حاجتك إلى أحد، فكلها مواقف تكشف لك حقيقة الأشخاص، خاصة إن كانوا كهؤلاء تحديدًا، يعرفون أسرارًا عن بعضهم! والأكيد.. أن الوصف النبوي للمنافق بأنه "إذا خاصم فَجَر" ينطبق بشدة على كثيرين يحيطون بنا. 

كذلك فإن المعتدّين بأنفسهم، المتخمين بالغرور، إن امتلكوا علمًا بشئ، أو رأيًا في أمر ما؛ فظنوه الرأي السديد الأوحد، تكون الإنطباعات النفسية التي يتركونها لدى الناس؛ منفّرة للعقلاء، والدكتور أحمد خالد توفيق -رحمه الله- حين تكلم عنهم في كتابه (خواطر سطحية سخيفة عن الحياة والبشر) فقال: "يكتب عاجزًا عن التخلص من فكرة أنه عظيم ومقنع.. لهذا لم أتحمل كتاباته قط." أكد على هذه الفكرة.

تكون بذلك صفات: عدم تقبل المتراجعين عن أخطائهم، والفُجر في الخصومة، والعُجب بالنفس.. كلها تظهر عبر اللسان، في كل المجتمعات، وبمختلف اللغات، ويكون النطق بها هو الظهور الأول لها، بعدما أخفتها النفس طويلاً.

ولأن التعاملات المباشرة الكثيرة تكون أصدق في إظهار ما أجادت النفس كتمه، ولم يكشفه طول السنوات، واحترفت تعبيرات الوجه، ونبرات الصوت في إخفائه؛ فنحن نضيف إلى الصفات السابقة.. 

ردود الأفعال على الأفعال القاسية حين تكون أقسى من الأفعال نفسها!

وهذه الصفة مخالِفةٌ من جهات:

مخالفة للمقاييس الإلهية، كما في قوله تعالى:
"فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ" (البقرة: ١٩٤)
وكقوله سبحانه:
"وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به"
(النحل: ١٢٦)

ومخالفة -كذلك- لفطرة النفس السوية، الملتزمة بالانسانية، مولّدة -أي هذه الصفة- بمخالفاتها هذه (الغلّ)، البادئ في نموه داخل غير الأسوياء على هيئة كلمات تقال ردًا منهم على أفعال غيرهم معهم، لتُظهر هذه الكلمات ما أخفت نفوسهم، والعجيب.. أن هذه البداية لردود الأفعال -أي الكلمات- حين تتحول إلى أفعال تؤكد تواجد الغل بكثرة، ونضوجه فجأة، وتُظهر كمَّه المرعب مع كثرة الركون إليه في الرد، بالقول أو الفعل.

فهذه الأفعال إذًا، المفترض أن تكون مجرد ردود أفعال، أي بلغة الفيزياء، مساوية للأفعال في المقدار، ومضادة لها في الاتجاه، تؤسس بزيادتها عن مقدارها، غلاً وحقدًا يُحفظ في ذاكرة الناس عبر المسلسلات والأفلام خبيثة الهدف، على أنه انتقامًا يُدافَع به عن حقٍ مشروع، مهما كان كَمُّه، أو أسلوبه، أو مداه، المهم.. أن يكون مؤثرًا، ليُتفاعل معه بالباطل، ويُقتدى به زورًا، مكوّنًا بذلك عُرفًا قائمًا بذاته، وصفةً أكثر قبحًا مما أخفته أو أظهرته نفس الفاعل الأول.

الأمر إذا صحيح.. كما أخبر أوسكار وايلد:
 "خَلق الإنسانُ اللغةَ ليُخفي بها مشاعره."
 ‏
 ‏وأقول أنه - أي الإنسان- يتفنن كذلك في إظهار أسوأ هذه المشاعر باللغة أيضًا، حين تفسد أخلاقه، ويعطب باطنه، فتراه -مثلاً- يعلّق متنمرًا على منشور لأحد الذين يكرههم، معيبًا الصفات الجسدية لصاحب المنشور، ليدلّ بذلك على إفلاسه الفكري، وجهله الديني، وغلّه المتخفي، الطافح على اللسان، بما أخفت النفس.