كتب الدكتور ✍️ أحمد عبدالخالق أحمد.
تشهد الزراعة في العصر الحديث تحديات غير مسبوقة، من تدهور التربة وتغير المناخ، إلى انتشار الأمراض النباتية التي تهدد الأمن الغذائي العالمي وخاصة مع النمو السكاني المتزايد. وفي خضم البحث عن بدائل آمنة ومستدامة للأسمدة والمبيدات الكيميائية التي أرهقت البيئة وصحة الإنسان، تبرز بكتيريا العقد الجذرية والمعروفة باسم الريزوبيا بوصفها إحدى أهم الأدوات الطبيعية التي يمكن أن تعيد التوازن إلى المنظومة الزراعية، فهي ليست مجرد كائن مجهري يرتبط بجذور النباتات البقولية لتثبيت النيتروجين الجوي، بل هي شريك استراتيجي للإنسان في معركة تحقيق الأمن الغذائي والحفاظ على البيئة. لقد عُرفت الريزوبيا منذ عقود بقدرتها الفريدة على تثبيت النيتروجين في العقد الجذرية للنباتات البقولية، حيث تحول غاز النيتروجين الغير قابل للاستفادة إلى مركبات نيتروجينية صالحة للنبات، الأمر الذي يغني عن جزء كبير من الأسمدة الكيميائية ويساهم في تحسين خصوبة التربة. وقد أثبتت التجارب الحقلية أن استخدام اللقاحات الريزوبية على البذور أو التربة يساهم في رفع إنتاجية المحاصيل وتحسين خصائصها الغذائية، فضلاً عن تقليل كلفة الإنتاج الزراعي وتقليل الانبعاثات الضارة الناجمة عن الإفراط في استخدام الأسمدة الاصطناعية.
غير أن الجديد والمثير هو انكشاف دور الريزوبيا في مجال المكافحة البيولوجية، كمكافح بيولوجي للأمراض النباتية،وهو مجال جديد يفتح آفاقاً واعدة للبحث والتطبيق، إذ تبيّن أن من خلال نتائج أبحاثنا العلمية الحديثة قدرة بعض السلالات البكتيرية علي افراز مركبات حيوية متخصصة تعيق وتثبط نمو بعض المسببات المرضية النباتية مثل البكتيريا والفطريات والفيروسات، كما تنتج مواد متطايرة تعمل على تعزيز مناعة النبات وتجعله أكثر صلابة في مواجهة الضغوط البيئية والمرضية. وتتجلى أهمية هذه الاكتشافات في كونها تمهد الطريق لتطوير لقاحات ومركبات حيوية فعالة من عزلات محلية ملائمة للظروف البيئية والتغييرات المناخية المختلفة تجمع بين خصائص التسميد الحيوي وخصائص المكافحة البيولوجية، بحيث يصبح المزارع أمام خيار مستدام وفعال يضمن له محصولاً ذات جودة وانتاج أعلي دون اللجوء المفرط إلى المبيدات والأسمدة الكيميائية.
كما إن مستقبل الزراعة الآمنة والمستدامة يرتبط ارتباطاً وثيقاً بقدرتنا على استثمار مواردنا الطبيعية وتعظيم انتاجها، والريزوبيا اليوم تمثل نموذجاً حيّاً لهذا التوجه، فهي تعيد إلى التربة خصوبتها، وتعزز صحة النبات، وتمنح المزارع أملاً في إنتاج أوفر وأجود بأقل كلفة وأدنى ضرر. وإذا ما تضافرت الجهود البحثية والتطبيقية لتوسيع نطاق استخدامها، فإننا سنكون أمام ثورة خضراء جديدة تحول الريزوبيا من مجرد بكتيريا تثبيت نيتروجين إلى عنصر رئيسي في برامج المكافحة البيولوجية المتكاملة، وتجعلها رمزاً للزراعة النظيفة ومفتاحاً بيولوجياً لحماية الغذاء وضمان استدامة الزراعة في المستقبل.