كتب: عبدالله محمد
لقد انجبت موريتانيا التي أدركت عمالقة حقيقيين في الفن، غنوا الفصيح والشعبي معا بتناغم فريد في معزوفات خالدة. وأنا اليوم أمتع أسماعي بعبقرية أحد هذه العمالقة.. الفنان الراحل سيداتي ولد آبه. وتخليدا لذكرى هذا العظيم سأتحدث اليوم عن الفن، أو لأكون أكثر تفصيلا؛ عن الفن وما يفعله بالذكريات، وعن الحنين الجارف الذي يصحبهما.. عن هذه المتسلسة الوجودية التي لا تنفصم، حتى ولو لم تكن بينها علاقة تاريخية سابقة في الذهن، عن هذا الثلاثي الذي يشعل قنديل الحزن الأخضر في ثوان معدودة.
الفن بالنسبة لي في هذا السياق، لا يمثل قيمة جمالية كمالية/ثانوية فحسب؛ بل هو وسيلة ناجعة وجميلة لاكتشاف نواحي من النفس قد ترهقنا كثيرا محاولة اكتشافها بطرق أخرى، إذ أنه يبني علاقة وطيدة بين الوعي واللاوعي في أذهاننا فندرك بالحس المشترك ما لم يستطع العقل إدراكه.
كما أنه، بمساعدة ثنائي الذاكرة والحنين، يضع الإصبع بطريقة جميلة ومبهرة، على منطقة الوجدان البعيدة والعميقة؛ والتي بالكاد تكون أسطورية بدونه.
الفن بكل تأكيد هو قيمة جمالية، لكنه أيضا حاجة إنسانية ملحة، سواء اكتشفنا ذلك أم ظل غائبا عنا؛ نحتاجه حتى نروي ظمأً روحيا ونغذي جوعا وجدانيا يظل دائما بدوام الإنسان. نحتاجه حتى نسكت ضجة العقل المدوية في أذهاننا، وندهشه قليلا بجمال ما ليس له برهان.
أما الحنين أو "بكاء الذاكرة الصامت" كما أحب أن أسميه، فهو حدث جمالي أيضا؛ لكنه بشكل أساسي، يحتفي بالتاريخ بطريقة حزينة جدا. إنه في الحقيقة لا يعدو كونه محاولة لتقمص وجود الإنسان في الماضي، واكتشاف كم كانت جميلة هي التجربة الإنسانية في التعاطي مع الوجود.
إن الذاكرة في الحقيقة هي زاد رحلة الحنين الطويلة هذه، والفن هو مطيتها الذلول.
أما الذاكرة، وبالإضافة إلى أنها مخزننا المعرفي ومحرك الوعي في كياننا؛ إلا أنها أيضا حاضنة الهوية لدينا، والتي تحوي كل البراهين التاريخية على تلك الهوية. والفن عندما يتجلى بوجهه المتفتح أزهارا مشعة ومتلألئة، فإنه بمحتواه الجمالي، يعزز تلك الهوية ويذكِّر بقيمة الإنتماء وجمال خصوصيته وتميز اختلافه.
لا يمكن أبدا أن يجتمع الفن والذاكرة ثم يلتحق بهما الحنين إلا واستيقظ الحزن؛ ليس الحزن بنسخته المأساوية البئيسة؛ بل الحزن بمعنى هادئ ووعميق.. الحزن "الوقور" ذلك الذي يُحيي الإنسانية فينا ويُعطي -عند انقضائه- معنا للوجود كله.
سِداتي ولد آبه يدندن في أذني منذ بدأت في كتابة هذه الكلمات، محاولا أن يُذكرني بأشياء كثيرة ظننت أنها امَّحت من ذاكرتي الذبابية، لكن صدى صوت حنجرته الرخيم يعيدني إلى الأيام الخوالي لأستحضر ما كان، ولأرى كيف أصبح.
توقفت مرارا عن الكتابة لأنقر برؤوس أصابعي وأحرك قدمي اليمنى، وأدندن طربا للإيقاع، ولنغم الكلمات المتناسق ولصوت "التيدنيت" التي يجعلها سيداتي تبكي مع كلماته وتتحسر.
يُسكرني سِداتي لحظة عندما يهذرم في تلاوة بعض المقاطع، ثم يوقظني ويهبني الحياة عندما يمدد اللحن في مقاطع أخرى مثل: "لاااا إلاااااااه إلا الله" إن سِداتي بمعزوفته المتأنية العجيبة هذه، يرشقني بالذكريات على شكل أزهار ذابلة وعطرة؛ محاولا أن يعطي قيمة وجدانية حقيقية لكل ما مررت به، سِداتي يسترد لي طفولتي المسروقة لحظات من الزمن، ويجدد فتوة الأفريقي الحالم في كياني؛ إنه يحاول أن يرمِّم هويتي المشردة، ويُؤويها بعد أن بعثرتها الحياة.. بعد أن تكالبت عليها الفردانية والجمعوية، وتناوشتها المغريات والمنفِّرات.
سِداتي قتل كل مأساتي بحزن جميل أبدعه هو و"تيدنيته" والذاكرة والحنين.