قالت بصوت مرتعش :" أنت أكرم ابن السيده ابتسام؟ يا إلهي أنت تشبهها على نحو عجيب"
ابتسم لسماع اسم والدته:" نعم إنه أنا, يا خاله عزيزه لقد أتيت إليك لأسألك كيف ماتت أمي و أين دفنت فوالدي يخفي عني الأمر لا أعلم لماذا؟
ردت بحزم: " إنه ليس والدك"
أجاب بإيماءة من رأسه :" نعم أعلم أنه عمي و أن والدي قد توفي قبل ولادتي , لكني منذ قدومي إلى هذه الحياة و هو أبي الذي رباني".
تنهدت في ألم ثم قالت:" صابر والدك رحمه الله كان رجلا طيبا للغاية, و تاجرا ماهرا من أغنى تجار البلدة و عمك جابر كان دائم الحقد عليه , توفي قبل ولادتك بشهر واحد,وقد فرح جابر كثيرا لوفاته ليرث أمواله,لكن وجودك أفسد كل شئ, فكانت أفضل طريقه ليستحوذ على كل أمواله ,هي أن يتزوج والدتك السيده ابتسام رحمها الله و يكون الواصي عليك ,كانت رقيقة طيبة القلب للغايه , تداوم على زيارتي من الحين للآخر للإطمئنان على ابنتي المريضه, و في أحد الأيام جاءت لزيارتي ولكنها كانت في حالة سيئة للغايه ,كانت تشتكي من سوء معاملة جابر لها وقد قررت أن تأخذ منه ورثها من صابر و تتطلق منه وتأخذك بعيدا خوفا عليك من شره, حاولت تهدأتها قليلا وظللنا نتحدث ثم انصرفت, كنت معتادة على الوقوف أمام منزلي لأراقبها حتى تصل إلى الطريق الرئيسي فقد كانت تخشى هذا الطريق كثيرا, و على بعد بضع خطوات من نهاية الطريق إلتفتت نحوي لتشير إلى بيدها لتودعني, وفجأة ظهر من خلفها شخص ملثم بعمامته , ضربها على رأسها بعصا ,كان الدم يغطي رأسها ووجهها و تمد يدها نحوي لتستنجد بي , شعرت بالخوف الشديد و اختبأت وسط الزرع قبل أن يراني,أخرجت رأسي في بطء لأتابع ما يجري فوجدته يجرها نحو الغيطان , أخذت بالاقتراب شيئا فشيئا من وسط الزرع حتى رأيته يحملها و يسير بها إلى خارج البلدة , كانت الشمس قد غابت بالفعل وبدأ يحل الظلام و الطريق خال تماما , حملها إلى أرض خاليه خارج البلدة وبدأ يحفر في الأرض لدفنها دون أن يشعر به أحد وفي هذه الأثناء سقطت العمامة عن وجهه و عرفته على الفور لقد كان جابر!!!
نظر إليها أكرم في ذهول و انهمرت الدموع من عينيه بلا توقف وصاح فيها بانفعال:" و لماذا تركتيها ؟؟؟ لماذا لم تحاولي انقاذها؟ لماذا لم تخبري أهل البلدة؟؟". أطرقت رأسها في أسف:" لم أستطع يا ولدي لقد خفت على نفسي كثيرا و على ابنتي المريضة لم أكن أقوى على مواجهته أو تحمل أذاه , فضلت الانعزال عن البلدة بأكملها , لكن الله عاقبني فقد توفيت ابنتي بعدها بوقت قصير وأنا ظللت في منزلي منذ ذلك الحين لا أغادره أبدا فلولا ابن أخي الذي يعيش في بلدة أخرى ويأتي لزيارتي بين الحين و الآخر ليحضر لي الطعام و الشراب لا أعلم كيف كنت سأعيش؟!!!". لم يقو أكرم على النظر في وجهها, فتابعت : "سنوات طويله و أنا أحمل حمل ثقيل في قلبي كنت أخاف أن أموت قبل أن أخبر أحدا بالحقيقه, بعدها أخذك جابر و أخذ اخته و انصرف قبل أن يلاحظ أحد اختفائها , لكني لا أفهم كيف استطعت الوصول إلي؟؟"
قص عليها أكرم قصة الحلم و الصندوق ثم قال:" لماذا الآن أنا لازلت أعجز عن الفهم؟؟!"
سألته :" كم أصبح عمرك يا ولدي؟"
فأجابها:" سوف أتم الثامنة عشر بعد اسبوعين"
ردت بإيماءة من رأسها :" لابد أن هذا هو السبب إذن ! أنت على وشك بلوغ الثامنة عشر و استرداد ميراث والدك من جابر , لابد أنه يحضر لك مصيبة للتخلص منك!"
كان أكرم في حالة انهيار تام و لم يعقب على ما قالته بكلمه فقط انصرف في هدوء و سار في يأس و هو ينظر إلى الطريق الممتد أمامه بشرود , لاحظ أن الطريق أصبح كما في الحلم تماما أخذ يتذكر شكل أمه وهي تفرد ذراعيها و تبتسم له ثم تتحول ملامحها للفزع و تشير إلى شيء ما خلفه ,خيل إليه في هذه اللحظة أنه يراها بالفعل تشير إلى شيء ما خلفه, إلتفت نحو الخلف بحركة غريزيه ليجد المفاجأة بانتظاره, ضربة قوية هوت على رأسه طرحته أرضا قبل أن يرى شيئا!!!!!!!!
وقفت عزيزه تنظر لجابر بمزيج من القلق و الأسف وهي تقول:" ألا تغيرك السنين يا جابر ما ذنب هذا الشاب المسكين ؟! فأنا لم أتخلص بعد من الشعور بالذنب لما فعلناه بأمه حتى الآن! " أجابها و هو يجر أكرم الفاقد للوعي و الدماء تغطي وجهه:" هو من فعل ذلك بنفسه لقد كبر و بدأ يبحث في الأمر و لن يهدأ حتى يكشف كل شيء , لن أنتظر حتى يقضي علي و يأخذ مني كل شئ كان لابد أن أتخلص منه في أسرع وقت , كانت أمينه تمنعني كلما حاولت ذلك سابقا فهي تحبه للغايه, لكن لم يعد الأمر يقبل التأخير أكثر , فلابد لأحدنا أن يتخلص من الآخر" نظرت إليه في غضب :" لقد شعرت بخوف شديد حينما رأيته أمامي , لم أتوقع أنه يشبهها إلى هذا الحد!, ووجدت نفسي أخبره بكل شيء شعرت أني أريده أن يعرف الحقيقة قبل موته كما كان يتمنى", رد عليها بلا مبالاة:" لا يهم ما قلتيه , لقد طلبت منكي أن تلهيه حتى أتمكن من الاختباء جيدا ومفاجأته من الخلف ,و أنا أعلم جيدا أنك امرأة ثرثاره, لذلك كان لابد أن تبقي في دارك كل هذه السنين , على كل حال لا يهم الآن فسيذهب للقائها بنفسه يجب أن أسرع قبل أن تشعر أمينه بغيابي و تفضح أمري"
ثم حمله و ذهب به إلى نفس المكان الذي دفن فيه والدته سابقا , ألقاه على الأرض و أخذ يحفر ليدفنه, في هذه الأثناء بدأ أكرم يستعيد وعيه و يفتح عينيه في بطء , رآه بصورة مشوشة للغاية لكنه عرفه على الفور قال في صعوبة بالغه:" أبي؟؟!" , رد في غلظه :" أنا لست أبوك!! لقد طلبت أن تعرف أين دفنت أمك فأحضرتك إليها !! ثم جذبه وألقاه في الحفرة و بدأ يردم فوقه التراب و أكرم يشعر بدوار شديد لا يقوى على الحراك ثم بدأ يشعر بصعوبة شديدة في التنفس ثم توقف كل شئ فجاة وسمع أصواتا لم تكن حالته تسمح له بتمييزها ثم غاب عن الوعي تماما!!!!!!!
فتح عينه بصعوبه ليجد نفسه في منزل لا يعرفه , يجلس بجواره ذلك الرجل الذي كان يتبعه منذ ولوجه إلى البلده, و بجانبه عمته أمينه و صديقه حسن, و يحيط بهم العديد من الناس الذين لا يعرفهم, أخذ يدير نظره بينهم في دهشة بالغه و هو يقول :" أين أنا ؟ ما الذي حدث ؟" , ردت عمته في حنان و الدموع تغرق وجهها :" حمدا لله على سلامتك يا ولدي استرح الآن و ستعرف كل شيء لاحقا", نفض رأسه في عصبيه قائلا :" أخبريني الآن ما الذي حدث؟ كيف عرفتي مكاني؟". ربتت على كتفه ليهدأ ثم أجابته :" حسنا يا ولدي سأخبرك , لقد شعرت أنك غبت كثيرا فذهبت إلى حسن و أخبرني بما حدث , ففهمت على الفور أن جابر يدبر لك مصيبه ويريد إبعادك عني حتى لا أتمكن من حمايتك مثل كل مره, فقد طلب مني صندوق الخيط منذ يومين ولابد أنه من وضع فيه تلك الورقة ليوهمك أنها رسالة من أمك بعدما سمعك تحكي لي ذلك الحلم و عرف كيف تفكر, جئت إلى هنا على الفور و ما أن وصلت إلى البلدة حتى وجدت حالة من الهرج و الفوضى تملأ البلدة , فقد رآك هذا الرجل الشجاع العم عبد الهادي و عرفك على الفور من الشبه الكبير الذي بينك وبين والدتك و تبعك إلى منزل تلك اللعينة عزيزه , ورأى ماحدث فاتصل بابنه و أمره أن يحضر رجال القرية بسرعه , و تبع جابر إلى ذلك المكان , وسرعان ما لحق به كل رجال القرية و أمسكوا بجابر و سلموه للشرطة بعد أن لقنوه درسا قاسيا". نظر أكرم إلى العم عبد الهادي في امتنان قائلا:" شكرا جزيلا يا عم عبد الهادي فلولاك لكنت تحت التراب بجوار أمي الذي قتلها ذلك الحقير ودفنها بلارحمه , لقد أخبرتني عزيزه بما فعله فيها ولابد أن أثأر لها بيدي" قالها و ارتجف جسده من فرط الانفعال, أمسك العم عبد الهادي بيده ليهدأ ثم قال له:" اهدأ يا ولدي فأمك ليست مدفونة هناك!!!! لقد أخبرتك عزيزه بنصف الحقيقة, لقد اتفق معها جابر ذلك اليوم لاستدراج أمك إلى تلك المنطقة المقطوعة ليفعل ما فعله فيها ,مستغلا خوفها منه و أنها لن تجرؤ على رفض أوامره , لم تكن تعلم ما الذي ينوي فعله حقا, كان دورها أن تحضر والدتك إلى منزلها فقط, و قد تبعته لترى ما الذي سيفعله بها , كنت أنا وعلى غير العادة قادم من الناحية الشرقية للبلده , عائد من خارجها , لمحت عزيزه من بعيد و هي تتسلل بين الزرع فشعرت بأن هناك أمر مريب تبعتها حتى وصلت إلى تلك الأرض رأيت جابر و هو يفر هاربا , ولاحظت آثار الحفر في المكان , علمت أنه كان يخبئ شيئا لكن آخر ما خطر ببالي هو ما فعله , لم أحفر كثيرا حتى عثرت على أطراف ملابس والدتك ظللت أزيل التراب عن وجهها بسرعه لتتنفس ثم أخرجتها وحاولت مساعدتها على التنفس حتى بدأت تستجيب و عادت إلى وعيها بعد فترة قصيره ,كانت في حالة ذعر شديد , قلت لها سأصحبك إلى الشرطة الآن فرفضت ذلك بشده و طلبت مني أن أوصلها إلى البلدة التي تعيش فيها جدتها , كانت تبعد كثيرا عن هنا , لم تكن تقوى على التفكير في شيء وقتها , أرادت فقط ألا يعلم جابر بأنها لازالت حيه خوفا منه , وترجتني أن يبقى الأمر سرا بيننا حتى تجد طريقة للعودة وأخذك منه, فاحترمت رغبتها , و لما عدت إلى البلدة كان جابر قد اختفى ولم يره أحد منذ ذلك الوقت و كتمت أنا الأمر حتى لا أعرض حياة أمك للخطر ثانية, بعد نحو شهر اتصلت أمك بي لتطمئن عليك فأخبرتها بأنني لا أعلم عنك شيئا و بأن جابر قد غادر البلدة بأكملها و لم أعرف عنها شيئا منذ ذلك الحين"
كانت المفاجأة أكبر من قدرة أكرم على الاستيعاب ظل يجهش بالبكاء لا يعلم هل من شدة الفرحة أن أمه على قيد الحياة أم من شدة الحزن لأنه لا يعرف طريقها"
ابتسمت أمينه واحتضنته بقوة ثم أخذت تمسح على رأسه في حنان شديد و هي تقول:" لقد كنت أعرف أن ابتسام لا زالت حيه لكني لم أكن أجرؤ على إخبارك حتى يشتد عودك قليلا وتتسلم ميراث والدك ,لتتمكن من مواجهة جابر فأنت لا تعلم مدى الشر الذي يسكن قلبه، لقد خفنا أن يؤذيك " نظر إليها في ذهول وهو لا يصدق ما تقوله, فتابعت :" لقد اتصلت بي ابتسام بعد نحو شهر من مغادرتنا البلدة و أخبرتني بما حدث معها , وطلبت مني أن أطمئنها عليك باستمرار, وفي بعض الأحيان كنت أخبرها بسفر جابر لتأتي وتراك من بعيد حتى لا تخبره أنت عند عودته وتفضح أمرنا , لم تتخلى عنك أبدا يا ولدي لكنها لم ترد أن تعرضك للأذى أو لضياع حقك في ميراث والدك, كانت فقط تنتظر الوقت المناسب! "
فوجئ الجميع بامرأة تتقدم نحوه و هي تجهش بالبكاء وتقول بصوت مرتجف :" وقد حان الوقت المناسب يا أكرم" ثم ألقت بنفسها عليه تحتضنه بقوة وهي في حالة انهيار تام , اتسعت عينا أكرم عن آخرهما و عيناه تتابع ما يجري وعقله يعجز عن التصديق , إنه بين ذراعي أمه الآن!! , قال بصوت منخفض للغاية :" أمي!!!" ثم ضمها بكلتا يديه وأسند رأسه على صدرها مستسلما لذك الشعور الذي تمناه طيلة حياته.