"أراها قادمة من بعيد على أول طريق طويل, على اليمين زرع أخضر عالي على امتداد البصر و كأنه بلا نهايه ,وعلى اليسار تراب, أنظر إليها وأنا لا أصدق عيناي من شدة الفرحه ,لقد اشتقت إليها كثيرا , أركض نحوها بأقصى سرعتي و أنا أصرخ بأعلى صوتي:" أميييي!", فتعلو الابتسامة وجهها و تمد ذراعيها لاستقبالي في حضنها, و أنا أضحك و أزيد من سرعتي لأصل إليها, فجأة تتغير ملامح وجهها ! تتسع عينيها في ذعر واضح و تشير إلى شئ ما خلفي, ألتفت إلى الخلف فلا أجد شيئا! أعيد نظري إليها ثانية لأجد الدم يغطي رأسها ووجهها وعلامات الخوف تغزو وجهها و عينيها , تمد يديها نحوي وكأنها تستنجد بي و هي تتحرك نحو الخلف بسرعه وكأن أحد ما يسحبها, أحاول الصراخ بأعلى صوتي فلا أستطيع ,أعيد المحاولة مرة تلو الأخرى بلاجدوى إلى أن تختفي تماما, و فجأة أفتح عيني لأجد نفسي ألهث من شدة التوتر و الخوف ولا أستطيع التنفس , يتكرر معي هذا الحلم كل ليلة منذ اسبوعين " أنهى أكرم حديثه و الدموع تملأ عينيه, ، ربت حسن صديقه على كتفه قائلا:"إهدأ يا صديقي , كل ما في الأمر أنك اشتقت لأمك رحمها الله لذلك تحلم بها كثيرا ,فلتقرأ لها الفاتحه و تدعو لها لتهدأ روحك قليلا", نظر له أكرم بعينين خاويتين وهو يقول :" أقرأ لها الفاتحه؟؟! أنا أتمنى أن أزور قبرها يا حسن ,أتمنى أن أعرف أين دفنت و كيف ماتت؟؟! كلما سألت والدي اشتعل غضبا و صاح في وجهي لكي يتهرب من الإجابه, و عمتي أمينه كذلك , هناك سر يخفيانه عني ", عم الصمت بينهما قليلا ثم قطعه حسن:" وأين أهل والدتك لما لا تسألهم؟", رد أكرم في يأس :"أنا لا أعرف منهم أحدا, كما تعلم فقد كنا نعيش في بلدة أخرى قبل مجيئنا إلى هنا, و في أحد الأيام الذي لم أنساه طيلة حياتي كان عمري وقتها 6 سنوات, استيقظت من النوم على صوت شجار عنيف بين أبي و عمتي ,وهي تبكي وتلطم وجهها ,سألتها في فزع :" ما الأمر؟", أجابتني :" لقد ماتت أمك ويجب علينا الرحيل فورا ", وضبت حقائبنا سريعا و جئنا إلى هنا, وحتى الآن أنا لا أعرف ما الذي حدث ولا لماذا رحلنا عن بلدتنا و لا أعرف أي شيئ عن أهل أمي؟؟!", نظر له حسن بإشفاق :" هون على نفسك يا صديقي فلابد أن يأتي الوقت الذي ستعرف فيه كل شئ", هب أكرم واقفا في عصبيه و صاح في غضب :" ولقد حان الوقت لكي أعرف!!", ثم انصرف مسرعا إلى والده ، دخل عليه غرفته وعلامات الغضب ترتسم على وجهه،
- إذا سمحت لي أريد الحديث معك في أمر هام
- أنصرف الآن فأنا مشغول
- لا! لن أنصرف هذه المرة قبل أن أعرف كيف ماتت أمي و أين دفنت؟!
رفع حاجبيه في دهشه ثم نظر له بغضب :
- ألم أحذرك ألف مره من الحديث في هذا الموضوع؟؟!!! .
- صاح أكرم في انفعال :" وانا لن أتحرك من هنا قبل أن أعرف ما الذي تخفيه عني"
- رد والده بصفعه على وجهه وهو يصرخ في غضب هادر:" كيف تتجرأ على الحديث معي بهذه الطريقه ؟! يبدو أنك قد نسيت نفسك و تحتاج ل....
قاطعته أخته أمينه :" ما الذي يجري ؟ ماذا فعلت يا أكرم؟؟! " وقبل أن يجيب بكلمه ،جذبته خارج الغرفة لتبعده عن والده ثم أدخلته إلى غرفته و أغلقت الباب ثم نظرت إليه متسائلة فرد عليها :" كنت أسأله عن امي كيف ماتت و أين دفنت؟! لقد أصبحت على وشك إتمام عامي الثامن عشر و من حقي أن أعرف ما الذي حصل لها؟!".تنهدت في عصبيىة ثم قالت:" مرة أخرى يا أكرم! ألا تمل من الحديث في هذا الموضوع ؟!, لقد أخبرتك ألف مره أن تتقي شر والدك ولا تتكلم في هذا الموضوع ثانية, هذا لمصلحتك يا ولدي صدقني فأنا خائفة عليك!!" ثم انصرفت ، تاركة أكرم في حالة يرثى لها من الحيرة و الحزن.
وبينما هو جالس في غرفته يشعر بخيبة الأمل و يعتمر الألم قلبه ،شعر بنسمة هواء قويه داخل الغرفة بالرغم من أن النافذة كانت مغلقه ،ثم بدأ ضوء المصباح المعلق في سقف الغرفة ينطفئ رويدا رويدا حتى أظلمت الغرفة تماما، شعر بالخوف و كأن أحد ما معه في الغرفه ، عاد الضوء فجأة ثم انطفأ ثانية و سمع صوت ارتطام شيء ما بالأرض في قوه ،ثم عاد الضوء ثانية وهدأ كل شيء ، تغلب أكرم على خوفه بصعوبة بالغه لينظر إلى الأرض و يرى ما الذي سقط ، وجد صندوقا قديما لم يلاحظ وجوده من قبل ، سقط من خزينة خشبية متهالكه مملوءة بالأغراض القديمة التي لم يبذل جهدا يوما ليعرف ما هي ، أخذ الصندوق بيد مرتعشه ،و فتحه ليجد فيه بعض الخيوط و الإبر ووسطها ورقه تبدو قديمة للغايه ،مكتوب فيها عنوان ، أخذ يتلفت حوله ،ثم وضع الورقة في جيبه و غادر المنزل راكضا نحو حسن.
-حسن لقد فهمت ما الذي يجري!.
نظر إليه حسن و الدهشة تعلو وجهه, فتابع قائلا:" أمي تحاول أن تخبرني شيء ما, أو تحذيري منه, لا تنظر إلي هكذا فأنا لست مجنون , وها هو الدليل هذه الورقة كان يستحيل أن أجدها بمفردي!" ,
نظر إليه حسن بإشفاق وهو يقول:" لا حول ولا قوة إلا بالله , اهدأ يا أكرم أرجوك لقد بدأت أقلق عليك حقا" ,قاطعه أكرم في عصبيه:" لا يهمني أن تصدقني الآن أريدك فقط أن تساعدني في الوصول إلى هذا العنوان ,بالتأكيد هو ليس هنا لابد أنه في تلك البلدة التي كنا نعيش فيها قبل مجيئنا إلى هنا ,لابد أن أعرف اسمها!!". تنهد حسن في حيره ثم أجابه:" وكيف ستعرف ذلك إذا كان والدك وعمتك يصران على إخفاء الأمر عنك؟", ساد الصمت بينهما لدقائق ثم قال حسن :" لماذا لا تنظر في شهادة ميلادك؟", نظر له أكرم في حنق قائلا:" وهل تظن أنني لم أفعل من قبل؟! اسم البلد المكتوب في شهادة ميلادي هي البلد التي كان فيها المستشفى التي ولدت بها ,فلم يكن في بلدتنا مستشفى في ذلك الوقت كما أخبرتني عمتي أمينه".نظر حسن إلى الأرض في يأس وساد الصمت بينهما ثانية, حتى قطعه أكرم في انفعال:" وجدتها!! العم إبراهيم الذي كان والدي يعمل معه عند قدومنا إلى هنا قبل أن يتنازعان و يفضان الشراكة اللي كانت بينهما من خمس سنوات"
رد حسن": وكيف ستسأله و أنت تعلم جيدا أنه لا يطيق الحديث عن والدك؟".
فكر أكرم قليلا ثم أجابه:" علي ابنه كان يدرس معي في المدرسة سأطلب مساعدته, هيا بنا بسرعه!!"
وجداه يلعب بالكره أمام منزله , فطلب أكرم الحديث معه قليلا ,طلب منه أن يسأل العم إبراهيم عن اسم البلد التي كان يعيش فيها والده قبل انتقاله للعيش هنا , فوعده علي أنه سيحاول رغم صعوبة الأمر فوالده لا يطيق ذكر اسم جابر أمامه أبدا.
بعد مرور ثلاثة أيام , رن هاتف أكرم :
-أخبرني يا علي هل توصلت لشيء؟
-نعم يا صديقي بالرغم من أنك تسببت لي في صداع شديد, فقد استمر والدي لثلاثة ساعات متواصلة يخبرني بتاريخ والدك الأسود معه و الذي سمعته للمرة الألف.
ضحك قليلا ثم تابع :" لكني عرفت اسم البلد التي قدمتم منها اسمها قرية "الهلايله".
فرح أكرم وشكره كثيرا ثم قرر الذهاب إلى هناك في الحال. و بعد نحو ثلاثة ساعات وصل إلى هناك , لكنه كلما سأل أحد عن العنوان الذي معه يرمقه بنظرة عجيبة ثم ينصرف بلا تعليق, لكنه لاحظ أن هناك شخص ما يتبعه منذ وصوله إلى القريه , يتابع ما يجري معه في اهتمام بالغ , قرر أكرم تجاهله تماما واستمر في السؤال عن العنوان الذي معه ,حتى سأل امرأة عجوز للغاية تجلس أمام دارها, نظرت إليه بتعجب ثم قالت:
- من أين أتيت بهذا العنوان يا ولدي؟ إنه منزل عزيزه !!, لم يرها أحد منذ فترة طويله , والمكان هناك موحش للغاية لا يقترب منه أحد!
- لا بأس يا خاله أرجوكي أخبريني كيف أصل إلى هناك.
- حسنا يا ولدي , استمر في هذا الطريق إلى نهايته و قبل أن تدخل إلى الغيطان مباشرة , ستجد طريق ضيق على يمينك , سر فيه لآخره ستجد منزل عزيزه هناك, لكن احذر أن يدخل عليك الليل قبل أن تغادر ,فذلك الطريق مخيف و مظلم للغاية ليلا.
شكرها و انصرف كان يشعر أن أحد ما يتبعه لكنه كلما التفت لا يرى أحدا, سار كما دلته حتى انعطف يمينا إلى الطريق الضيق, و وما أن خطى بداخله حتى اتسعت عيناه في ذهول , انه نفس الطريق الذي يرى فيه أمه في الحلم كل ليله لكنه معكوس فالزرع على يساره و التراب على يمينه, شعر بالخوف يدب في قلبه ,لكنه تابع حتى وصل إلى المنزل الطيني في نهاية الطريق , وطرق على الباب, فتحت له امرأة مسنه للغايه:
- من أنت يا ولدي و ماذا تريد؟؟
- أنا أكرم صابر ابو هلال.
اتسعت عيناها عن آخرهما و رجعت إلى الخلف بضع خطوات في حركة غريزيه و هي تشهق و تضرب على صدرها بكفيها, فقد كانت رؤيته أمامها مالم تتوقعه أبدا!!!