القائمة الرئيسية

الصفحات

اخر الاخبار

نداء بصوت خفيض_ الجزء الثاني


كانت الساعة تشير إلى التاسعة والنصف مساءً عندما عبرت سيارة (سامي) نقطة تحصيل الرسوم علي مشارف القاهرة ، بعد أن نهبت طريق العودة  في وقت قياسي نتيجة السرعة الجنونية التي كان يقود بها ، داخل السيارة كان الصمت يُخيم علي الجميع ، لم يجرؤ أحدنا أن ينطق ببنت شفة سوي زوجة سامي التي أصرت أن تذهب إلي منزل والدتها ، والتي جلست بالمقعد الخلفي تحتضن صغارها وتُتمتم بما تحفظ من القرآن الكريم ، بجانبها كانت تجلس (روان ) التي لم تستطيع صد النوم الذي كان يغزو عيونها الصغيرة  ، فغرقت في نوم عميق ، أثار ضيقي رد فعل زوجة (سامي) وخوفها من (روان) ، وتحول هذا الضيق إلي غضب ، فقلت لأخي 
– ها قد وصلنا إلي القاهرة ، يمكنك الآن تفسير الأمر 
–  أهدئي من فضلك ، وسأقص عليكِ الأمر بعد أن تصل   زوجتي إلي والدتها ، أصبري قليلاً 
أُحرجت من تجنبه الحديث معي ، فتحول هذا الإحراج إلي عناد ،وبنفس اللهجة الغاضبه صرخت في وجهه 
– هل تتعامل معي بهذا البرود لأن الأمر لا يخص أحد أولادك ، ألا يعني لك شيئاً ما حدث مع  ( روان) ؟
– (ولاء) كُفي عن الصياح ولا تُلقي بإتهامات باطلة ، تحلي بالصبر فلم يتبقى الكثير علي وصولنا ،وتوقفي عن خلط الأمور ببعضها البعض .
لم يعد لدي ما يفيض عن حاجتي من الصبر ، ليتك تعلم يا أخي ، ولكني إلتزمت بصمت مُطبق إلي أن وصلنا إلي منزل والدة (نرمين) ، التي هبطت من السيارة فور توقفها وذهبت تصحب أولادها  مُسرعة دون أن تُلقي أي تحية أو سلام ودون أن  تلتفت إلينا ، أنطلق (سامي) بالسيارة يقصد  منزلي ،وبالمنزل كنت أُعد له قدحاً من القهوة بينما ذهب هو حاملاً (روان) إلي فراشها ، جلس شارداً إلي أن أنضممت إليه  ووضعت قدح القهوة  أمامه ، وجلست بجانبه ، لم يشكُرني علي إعداد القهوة كالعادة ،وبدأ حديثه وهو لازال شارداً
– بدأ الأمر عندما أصر والدنا أن يحتفل بعيد ميلادك الرابع بمنزل الجدة ، لقد كان يوماً جميلاً كنتي فيه الأميرة المُتوجة ،و أمتد الإحتفال  لما بعد منتصف الليل ثم هدأ المنزل ونام الجميع ، أستيقظت بعد نومي وكنت خائفاً ، لطالما كنت أخاف أن أكون وحدي بهذا المنزل ، ولكن كان لابد أن أذهب إلي المرحاض ، حاولت أن أوقظ أبي ولكنه لم يستجيب لندائي ، فخرجت من الغرفة  وكان يلف المنزل صمت عجيب ، بالمرحاض جلست مُتأملاً الأشكال المتناثرة علي هذا البلاط القديم بأرضِيته ، خُيل إليّ وكأن هذه النقوش تتشكل لترسم وجوه لأشخاص وأخري لحيوانات مفترسة ، الأدهى والأمر أن كل الوجوه كانت بشعة و تبتسم علي الرغم من قُبحها .
صمت (سامي)  قليلاً ليأخذ جرعة من قهوته ونظر إليّ و بعينيه رأيت ملامحي التي كانت تعبر عن الهلع ، ثم تابع حديثه 
– تمنيت أن تكون عيني هي من أخطأت الرؤية ، أو أن يكون كل هذا مجرد كابوس بأحد أحلامي ،حاولت أن أتجاوز الأمر ببعض البساطة ، فقلت "هذا جنون ، وما أراه ما هو  إلا نتيجة لقذارة أرضية  هذا المرحاض " ، وفجأة وبدون أي مقدمات سمعت من يتحدث إليّ هامساً وبصوت يُشبه الفحيح ،النبرة كانت مُحقرة جداً ولا أعلم من أين تأتي " تأدب يا فتي ، وإلا سأذيقك عذاب لن يخطر لك علي بال "،  لم أستطع السيطرة علي مخاوفي وتملك الرعب مني علي الرغم من كل محاولاتي أن أظل ثابت ، أخذت أصرخ كثيراً وخرجت مُهرولاً دون أن أُحكم غلق زر بنطالي ، حينها أصابني دوار كان يجُوس في أنحاء عقلي وكأنه يبحث عن ملاذ له وسقطت فاقد الوعي .
قطع حديثه فجأة رنين هاتفه ، فأسكَته ولم يهتم بالرد علي المكالمة التي تأتي من زوجته ، ثم أخذ جرعة من الماء وتابع حديثه مرة أخري 
– لم أدري كم من الوقت ظللت فاقد الوعي ، ولكن عندما تنبه عقلي سمعت ما لا يُرضي بشر ، سمعت من يقول لأبي "لابد أن نُحكم ربطه بجزع شجرة ونستمر بضربه حتي يتألم من بداخله ويخرج ،ويترك جسده بسلام " ، كان مجرد دجال أتى به أبي لعله يستطيع معرفة ماذا أصابني ، فطردته الجدة شر طردة مصطحبة ببعض السُباب واللعنات له ولأمثاله ،كنت أنا أول حفيد بالعائلة وكان لي مكانه بقلب جدتي ، و كانت الجدة سيدة ذات شخصية حكيمة وكلمة مسموعة منحها (الله عز وجل )  بصر وبصيرة ، ولم أراها يوماً  تُأجل صلاة أو تسهو عنها بل كانت تحرص علي أن تؤدي كل  صلاة بأوقاتها ، كانت هي أول من تنبهت و سمعت أخر صرخاتي التي بدت مكتومة والتي تبعها صوت أرتطام جسمي بالأرض ، وبعد ذلك  أصبح جسدي مقصد لنوبات الإغماء التي لم يجد لها الأطباء تفسير عضوي، وكأن هناك معركة تدور  بداخلي ،ثورة وفوران بداخلي كإعصار هادر  يجتاح شاطئ ليس به إلا زورق صيد صغير لا طاقة له في الصمود أمام هذا الإعصار الغاضب ، كنت أنا كهذا الزورق وكانت الهزيمة المُخذلة دوماً من نصيبي ،مُقترنة ببعض الهمسات التي أفهمها أحياناً وكثيراً ما تكون بلغة لا علم لي بها ، والتي كانت تجعلني أترنح كمُدمني   الخمور ، إلي أن ذهب بي جدي إلي صديقه المُلقب  بالشيخ / عبد العال البُصيلي ،أحد الرجال البُسطاء كهل يشع وجهه بالنور ، كانوا يرونه طبيب شعبي و عالم  مُطلع علي الرغم من عدم قدرته علي القراءة أو الكتابة ، قص عليه جدي ما حدث لي  ،و بعد قراءته لبعض آيات القرآن الكريم أفاد بأن هناك عراك بداخلي ما بين قريني وبين أميرة من العالم السفلي تُدعى (نقموذا)  ، الحق يُقال .. لم أري جدي مذعور كما رأيته عندما سمع كلام هذا الشيخ ، فقال له 
–وما الحل يا شيخنا ، هل سنترك الصبي هكذا ؟
– لا داعي للقلق يا حاج( حمدي )، فهي غير مؤذية ، فقط الصبي أساء إليها ، ولابد أن يعقد معها صداقة حقيقية لكي يشفى ، وهي غاضبة كونه يمتنع التحدث معها 
عاد بي جدي إلي المنزل وكانت جدتي تنتظرني ، ولم تُبدي أي ردة فعل علي ما قال جدي ، طلبت مني أن أصعد معها إلي غرفتها ، وعند دخولي الغرفة أصابني سعال نتيجة البخور الكثيف الذي بدلت جدتي دخانه ورائحته  بدلاً من الهواء ، أخذت تقرأ آيات مماثلة كالذي قرأها الشيخ إلي أن سمعت من يتحدث بصوت  ألفته ، كان نفس الصوت الذي سمعته من قبل والذي أسمعه دوماً دونما أجيب  ،فقالت جدتي 
– السلام علي من حضر 
– ماذا تريدين أيتها المرأة 
– عهد مصالحة 
– لا وجود لأي عهود بيني وبينك 
– ماذا فعل الصبي ،وماذا تريدين منه؟ 
– ليس لكِ الحق في توجيه أي أسئلة 
– أتركيه وشأنه ، ونعقد عهد علي هذا 
كان هذا أخر ما سمعته ، ولم أعد أسمع أي أصوات بعدها ، بل تحول الأمر إلي جدتي التي عقدت هي العهد بالسلام والصداقة بدلاً مني ، والتي أصبحت لها خلوة يومية لكي لا يراها أحد وكأنها تتحدث إلي نفسها ، ظننت أن العهد أنتهي  بموتها ،  ولم أكن أعلم أنه سيمتد إلي الأحفاد 
أتَسعت عيني دهشة ،وتسارعت دقات قلبي وأصبح التنفس في غاية الصعوبة ، هدأت بعد أن أعطاني (سامي) جرعة ماء 
وقلت له بلهجة تحمل القليل من الغضب والكثير من التوسل 
– هيا ، سنعود إلي منزل الجدة بالأسكندرية .
– أنسي الأمر ، وإلا ذهبنا إلي دوامة ليس لها قرار 
–أياً كان ما سيأتي فأنا له ، ليس أمامنا إلا أن نعود إليها أو ننتظر قدومها إلينا ، أي الأمرين تُفضل ؟ 
لم يرد (سامي) ،وفجأة لمعت بداخلي فكرة ، فقلت له 
– هيا يا (سامي) ، خطر لي حلاً ثالثاً وأمامنا خطوة خطيرة لا مفر منها ، سنذهب إلي هناك ولكن سينضم إلينا شخص لابد من وجود