لم تكن فكرتي ولم أكن أريد الخروج من منزلي ، كانت فكرة شقيقي (سامي ) أن نأتي لقضاء بعض الوقت بمنزل العائلة بالأسكندرية حيث كانت تقيم جدتي والذي أصبحنا نملكه مناصفة بيننا بعد موتها ، لم أجد من يعتني بي في وقت الشدة إلا شقيقي ، يكبرني بأربع أعوام وكان مُسانداً لي في هذا الصراع العنيف لي مع الظروف التي كادت أن تؤدي بي إلي العزلة ، لم أري في حياتي شيء مؤلم أكثر من فقدان شخص عزيز ، شخص تحول مسكنه من عالم إلي آخر لا علم لنا به ، والأكثر ألماً هو عجزك الكامل عن فعل أي شيء لمنعه من الذهاب ، فمهما فعلت سيذهب في طريقه الذي تستحيل العودة منه ، هذا الشخص العزيز الذي فقدته هو زوجي الذي لقي حتفه في حادث مروري منذ ستة أشهر ، أشعر بمنتهي الضعف والهوان في غيابه ، ولن يتبقي لي منه إلا عطره وبعض الصور وأبنتي (روان) التي تبلغ خمس سنوات من عمرها ، هي تشبهه كثيراً وتمتلك من الذكاء ما يميزها عمن بنفس عمرها ، كانت فرصة مثالية لتعود الحياة بمنزل الجدة وصنف الأطباء الأمر علي أنه تدخل مفيد لتستقر حالتي النفسية ، أما عني كان حزني يتضاعف وأنا أنظر إلي هذا المنزل الذي كان يضج بالحياة والضحكات ،قد تهالك من الخارج وكأنه كان شاباً وهرم فجأة ، "حتي البيوت تحزن علي غياب أصحابها" كانت هذه مقولة شهيرة علي لسان جدتي ،أما عن (سامي) فظل شارداً وهو ينظر إلي المنزل ولم ينتزعه إلا دعوة أبنائه له بأن يتقدم ويفتح الباب ، وتعجبت لصمت زوجته كثيرة الشكوى والتذمر ،كانت الساعة العاشرة صباحاً عند دخولنا المنزل ولم أهتم إلي خيوط العنكبوت التي كانت تسد المدخل وكأنها تمنعنا من الدخول ،ولا لصوت صرير الباب الذي كان يشبه رنين الإنذار لبوابات كشف المعادن ، أخذت انظر للبيت من الداخل ،فوجئنا بوجود عطل كهربي ولا وجود لأي مصدر إنارة بالداخل ،فكانت النوافذ المفتوحة مصدر الإضاءة الوحيد ، كان الغبار يغطي معالم البيت بل كاد أن يطمس معالمه ، كل ركن هنا يحمل بعض من ملامح طفولتي ، ولطالما تسابقت مع أخي في الصعود علي هذا الدرج الخشبي ، وكثيراً ما كان صوت أرتطام أحدنا عليه يزعج الجدة التي كانت عاشقة للهدوء ، لقد كان لها يومياً خلوة خاصة بها داخل غرفتها تستمر لساعات ولا يجرؤ أن يقطعها أي فرد صغير كان أو كبير أياً كانت الأسباب الضرورية لذلك ، ولطالما كان الأمر بالنسبة لي مُبهم ومُريب وتعجبت من عدم تلقي رد مفهوم من والدي عندما سألته عن الأمر ، أظنه كان يجهل السبب هو الآخر ، كان الأمر يتطلب أن نأتي بمن يساعدنا في تنظيف البيت ، ولكن بشكل مبدأي لابد من تنظيف حجرة ليجلس بها الصغار لكي لا يتأذى أحدهم من الغبار والأتربة ، ساعدتني زوجة أخي علي غير عادتها بعد أن ذهب (سامي) ليحضر من يُصلح العطل الكهربائي ، وعملنا علي تنظيف حجرة بالطابق الأرضي وبعد مرور ساعة من العمل الشاق أصبحت جاهزة ، خرجت للأطمئنان علي الصغار وهم يلعبوا بالخارج ، خفق قلبي بقوة عندما فوجئت بغياب (روان) ، سألت عنها أولاد أخي فأجابوا أنها لم تلعب معهم ولا يدري أحدهم إلي أين ذهبت ، حينها أخذت أصرخ وأنا أنادي عليها و أبحث في كل الحجرات والغرف دون أجابة منها ، صعدت للطابق العلوي حيث تقع غرفة جدتي لعلي أجدها هناك ، وما إن دخلت الغرفة حتي صُدمت عندما وجدتها جالسة علي الأرض وبجانبها حقيبة الألعاب ومُبعثرة محتوياتها ،كان المكان يميل إلي الظلمة و تعجبت لهذا الكم من الأتربة بغرفة الجدة وكأنها اُهيلت عليها من السماء عبر سقف الغرفة
– لا ترحلي يا صديقتي انها أمي !
–مع من تتحدثين يا (روان) !؟
أشارت بيدها نحو نقطة مجهولة بالقرب من النافذة وقالت
– أنها صديقتي ، وتقول أنها تعرف أسمك وتعرف خالي
نظرت في حيرة إلي حيث تشير فلم أجد أحداً ،كل ما وجدته قطة بنية اللون فلم أهتم كثيراً ، (روان) كمعظم الأطفال يُطلقوا أسماء علي الدُمى ويُكونوا معهم علاقة صداقة ، ويُوجدوا حديث فيما بين اي دمية ودب قطني ،وكثيراً ما كانت تطلب أن أحضر لها قطة لتلعب معها ..، كانت الساعة تدق الواحدة ظهراً عندما عاد (سامي) وأحضر معه هذا الفني ليُصلح عطل الكهرباء ، وأحضر لنا أيضاً بعض الوجبات السريعة ، جلسنا لنأكل جميعاً بعدما ذهب الفني وعم النور المكان ، وكانت دهشتي مضاعفة لصدمتي عندما نظرت إليّ (روان) وقالت ...
– أمي ، هل حقاً أتصل بكِ أبي لحظة موته ولم تردي ؟
نظرت إليها بدهشة وذهول وحيرة الكون ، بالفعل أتصل بي زوجي أكثر من مرة حينما كان يلفظ أنفاسه الأخيرة ، ولازال الندم يلتهمُني لأنني لم أسمع رنين الهاتف ولم أرد عليه ، ولكن من أين لها بمعرفة ما لا يعرفه مخلوق غيري ، لم أقدر علي النطق بأي حرف ، فقالت وهي تُكمل حديثها
– لقد قالت أن أُبلغكِ أن تكُفي عن نثر عطر أبي علي ثيابك ، وقالت أنها تعرف ما كان يريد أن يخبرك به عند موته
– هل صعدت الصغيرة إلي الطابق العلوي؟؟
_نعم ، وجدتها بغرفة جدتي !
لم أري شقيقي مُضطرباً أو مُرتبكاً مثلما رأيته حينما أبلغته ، تغيرت ملامح وجهه وجحظت عيناه في ذهول ، تسارعت دقات قلبي ولم أعد أستطيع الصمت فصرخت في وجهه
– ما الأمر يا (سامي) ، ما الذي تعلمه وتُخفيه عني ؟
– يبدو أنني أخطأت عندما أتيت بكم إلي هنا ...
قالت( روان )بطريقتها الطفولية البريئة موجهة حديثها له
– هل تعرف صديقتي ، أنها تُبلغك السلام
رد وهو يعض علي شفته السفلي
– نعم أعرفها يا (روان) ، كنت أظن أن موروث العائلة فقد طريقه إلينا ، و الآن أدركت أن ....