"بقالي تلات ساعات بدور على رانيا مراتي ملهاش أثر!"
قالها إيهاب بانفعال بالغ وهو يخاطب كابتن هاشم قبطان باخرة "رويال كروز" بعد أن خرج للحديث معه عند سماعه لتلك المشاجرة العنيفة التي دارت بين إيهاب ومساعده علاء، قال بصوتٍ رصين في محاولةٍ لتهدئته:
- "ما تقلقش يا بشمهندس إيهاب هتلاقيها أكيد، إحنا فنص الميه هتروح فين يعني! كلمتها عالموبايل؟"
- "موبايلها مقفول ولفيت عليها التلات إدوار بتوع الباخره كلهم حته حته ملهاش أثر، ولو مساعدتونيش ألاقيها مش هسكت غير أما أفتح أوض الباخره كلها!"
تبادل القبطان هاشم مع مساعده علاء نظرةً مريبةً للغاية، أثارت عدم الارتياح في قلب إيهاب، فقرر الانصراف بعد مجادلةٍ لم تسفر عن أية نتيجة، تظاهر بالمغادرة حتى دخلوا إلى غرفتهم وأغلقوا الباب، ثم سارع بالعودة ووضع أذنه على الباب فسمع الحوار التالي:
- "وبعدين يا قبطان دا تالت واحد يتخانق لحد دلوقتي واحنا لسه في تاني يوم!"
- " وطي صوتك ياعلاء أنا مش ناقص، الموضوع بقى مقلق، لازم نشوف حل بسرعه !"
في اليوم السابق..
وصل إيهاب بصحبة رانيا زوجته إلى الباخرة "رويال كروز" استعداداً للانطلاق في رحلة نيلية متجهةً إلى أسوان احتفالا بالذكرى العاشرة لزواجهما، تلك الرحلة التي طالما حلمت بها رانيا وتهرب منها إيهاب مِراراً بسبب خوفه الشديد من ركوب البواخر، لكنه قرر الاستجابة لطلبها هذه المرّة على غير المعتاد.
كان يوماً مثالياً للغاية كل شيء حولهما كما يجب أن يكون، لم تشعر رانيا بهذا القدر من الاسترخاء منذ وقتٍ طويل، تظاهر إيهاب بالسعادة رغم ذلك القلق الذي يشعر به لبقائه خمسة أيام كامله على ظهر باخره، لكنه جاهد ليخفي توتره حتى لا يفسد على رانيا استمتاعها بالرحلة.
في صباح اليوم التالي غادرت رانيا غرفتهما إلى المطعم لتناول طعام الإفطار فقد كان الجوع ينهش جوفها، حتى أنها لم تستطع انتظار إيهاب ليرافقها. لحق بها بعد حوالي نصف ساعه بعد أن أنهى مراسم استيقاظه من النوم وارتداء ملابسه، توجه إلى المطعم لكنه لم يجدها، حاول الاتصال بها لكن هاتفها كان مغلقاً، أنهى طعام إفطاره وتوجه إلى سطح الباخرة حيث تحب الجلوس لكنه أيضاً لم يجدها، تعجب كثيراً وعاد إلى غرفته لعلها تكون في انتظاره هناك، لكن الغرفة كانت خاليه، ظلّ يبحث عنها في كل مكان دون جدوى اتجه إلى طاقم الباخرة فساعدوه في البحث لكنهم لم يعثروا لها على أثر، كان التوتر والانفعال قد بلغ منتهاه في نفس إيهاب فبدأ بالصياح والشجار مع أفراد الطاقم حتى أخذه أحدهم إلى علاء مساعد القبطان، ودار بينهما جدالٌ عنيف بعد أن قال له علاء أن كل راكب مسئول عن نفسه وليس من شأنهم البحث عن الركاب، انتهى بتدخل القبطان هاشم بنفسه لإنهاء الأمر و عدم لفت أنظار الركاب لما يجري.
دبَّ الرعب في قلب إيهاب بعد سماعه لذلك الحديث الذي دار بين هاشم وعلاء وأيقن أنهما يخفيان شيئاً، ابتعد عن الباب قبل أن يراه أحد وهو غارق في التفكير لا يدري ماذا يفعل، وأثناء سيره سمع صوت نحيب شديد، التفت إلى مصدر الصوت فوجد امرأةً تبكي على نحوٍ مثير للانتباه، فأسرع نحوها قائلاً:
- " خير في مشكله؟"
نظرت إليه بعينين دامعتين وهي تقول بصوتٍ مرتجف:
- " بقالي ساعات بدور على رامز جوزي مش لقياه وأنا بخاف أفضل لوحدي، ومعرفش حد هنا و موبايله مقفول مش عارفه أعمل إيه؟!"
- "هو آخر مره شوفتيه قالك رايح فين؟"
- "قالي هيسبقني على المطعم وأنا جهزت ورحت على هناك ملقيتهوش ومن ساعتها وأنا بدور عليه مش لاقياه".
ضاعف كلامها من مقدار القلق والحيرة في نفسه، لكنه لم يشأ أن يزيد من خوفها فقال محاولاً طمأنتها:
- " متقلقيش أنا مش هسيب حضرتك غير أما تلاقيه، أنا كمان بدور على رانيا مراتي هندور سوا لحد ما نلاقيهم إن شاء الله"
بدا الارتياح على وجهها قليلاً لكلامه ورافقته في صمت، اتجه مباشرةً نحو المطعم بعد أن أدرك أن البدايه من هناك، بحثا جيداً لكنهما لم يعثرا عليهما، حاول إيهاب سؤال العاملين عنهما لكنه لم يصل إلى شيء، ظلا يسيران بين ممرات الباخرة، ويبحثان في كل مكان يجتمع فيه الناس، وأثناء سيرهما لاحظ إيهاب مرور أشخاص يرمقونه بنظرات غريبه، ملامحهم جامده ووجوههم متجهمه ونظراتهم تبعث الفزع في القلوب، وما أثار اندهاشه أكثر أنه صادفهم في أماكن متفرقه أثناء سيره وكل واحدٍ منهم على حِدى، لم يكن بمقدور عقله استيعاب كل هذا الكم من الغموض في آنٍ واحد، لكنه تابع السير في صمت تاركاً زوجة أستاذ رامز والتي أخبرته ان اسمها "هَمس" تبحث عن زوجها، لكن بلا جدوى، اتجه ثانيةً نحو سطح الباخرة حيث تحب رانيا الجلوس، خلعت صيحة هَمس قلبه وهي تشير بإصبعها في سعادة قائلةً:
- "رامز هناك أهه!"
رسم ابتسامةً باهتةً على وجهه وهو يقول:
- " طب كويس الحمد لله إنك لقيتيه"
شكرته وانصرفت راكضةً نحو رامز، تابع بحثه بين الناس الذين زاد عددهم كثيراً عن المرة السابقة التي صعد فيها إلى السطح، حتى لمحها من بعيد جالسةً على كرسي، أسرع نحوها في مزيجٍ من الفرحة والضيق معاً حتى اقترب منها وصاح بصوتٍ عال:
- "كنتي فين يا رانيا كل ده؟!ّ"
التفتت نحوه في بطيء لترتعد أوصاله، فما رآه كان غريباً للغاية!!!!!
شعر بالفزع من تلك الملامح الجامدة والنظرة المريبة التي رمقته بها، ذكَّره منظرها بأولئك الأشخاص الذين مروا بجواره أثناء بحثه عنها، انتبه لشيء لم يلاحظه من قبل! أغلب الأشخاص الموجودين بالمكان ترتسم على وجوههم نفس الملامح ويتبادلون النَّظرات ذاتها! التفت بحركة تلقائيه ناظراً إلى همس، فوجد ما توقعه تماماً! علامات الذهول تبدو واضحةً على وجهها وهي تنظر إلى رامز الذي لم يتمكن من رؤية ملامحه جيداً لكنه أيقن أنه لو رآها سيجدها كالباقين. أمسك بيد رانيا دون أن ينطق بحرف وسحبها مسرعاً باتجاه غرفتهما، وهي ترافقه في صمت، دخلا إلى الغرفة فانفجر غاضباً:
- "عاوز أعرف دلوقتي حالاً إنتي كنتي فين من الصبح؟! احكيلي دقيقه بدقيقه"
تطلعت فيه بنفس الملامح الجامده وقالت بنبره هادئة:
- " روحت المطعم فطرت واتمشيت شويه في الباخره وبعدين طلعت عالسطح استمتع بشكل الميه، بس ده كل اللي حصل"
- "أكتر من 3 ساعات بتتمشي في الباخره؟؟ وموبايلك كان مقفول ليه؟"
- " مخدتش بالي ان الموبايل مقفول"
كان إيهاب يتمعن في ملامح وجهها الغريبة وهي تتحدث ويوقن أنها تخفي شيئاً، لكنه قرر التوقف عن الشجار والاستمرار في مراقبتها دون أن تشعر حتى يصل إلى حقيقة ما يجري. خرجا من الغرفة وتابعا برنامج الرحلة وهو لا ينفك عن مراقبتها متعجباً من ذلك الوجوم الذي يرتسم على وجهها وتلك النظرات العجيبة التي ترمقه بها بين الحين والآخر. وأثناء سيرهما فوجي بهمس تقترب منهما لا يبدو عليها أنها بخير، عرَّفها على رانيا وسألها:
- "فين أستاذ رامز عاوزين نتعرف عليه؟!"
بدا الارتباك على وجهها فقالت بتلعثم:
- " أنا جايه لحضرتك بخصوص رامز"
أدرك إيهاب ما توشك على قوله لكنه لم يشأ الحديث أمام رانيا فتظاهر أنه سيذهب معها للقائه حتى ابتعدا عن أنظار رانيا التي لم تكترث للأمر مطلقاً على عكس طبيعتها مما زاد من حيرته، توقف عن السير وقال باهتمام بالغ:
- " اتفضلي يا مدام همس قوليلي إيه مشكلة رامز؟!"
- " من ساعة ما لقيته وهو مش طبيعي في حاجه غريبه فملامحه ونظراته حتى طريقة كلامه مش مريحه، أنا خايفه منه!!"
قالتها ثم دخلت في وصلة بكاءٍ شديد، فاضطر لمصارحتها هذه المرّة:
- " اسمعيني كويس يا مدام همس، نفس اللي حصل لرامز جوزك حصل لرانيا مراتي، هي كمان اختفت ومن ساعة ملقيتها وهي على نفس الحال، ومش هما الاتنين بس في ناس كتير زيهم حوالينا، أنا معنديش أي تفسير للي بيحصل، كل اللي أقدر أقولهولك إنك تخلي بالك من نفسك وتراقبي رامز كويس وتحاولي تعرفي كان فين قبل ما تلاقيه، ولو عرفتي أي جديد بلغيني فوراً"
زاد كلامه من فزعها لكنها جاهدت نفسها محاولةً تمالك أعصابها ثم انصرفت. عاد إيهاب إلى رانيا التي لم تسأله عن أي شيء، كتم دهشته في داخله وتابع معها برنامج الرحله حتى نهايته، وقبل أن يخلدا إلى النوم فاجأته بسؤالٍ عجيب:
- " فاكر انتصار جارتنا اللي اختفت ومحدش لقاها لحد دلوقتي؟!"
اتسعت عينا إيهاب في ذهول وسرت قشعريره بارده في جسده ثم قال في خفوت وهو يحدق فيها بحذر:
- " إيه اللي بتقوليه ده يا رانيا؟! إحنا عمرنا ما كان لينا جاره اسمها انتصار؟؟؟!!"
حاولت مجادلته لكنه قاطعها قائلاً:
- "إحنا مرهقين يارانيا الأفضل نرتاح دلوقتي عشان هنصحى بدري، ومن فضلك ما تخرجيش من الأوضه لوحدك تاني مفهوم؟!"
ردت في حنق:
- "ماشي." ثم خلدت إلى النوم، ظل إيهاب مستيقظاً في محاوله لمراقبة ما ستفعله، وعقله لا يتوقف عن التفكير في كل ما يجري حتى غلبه النعاس.....
استيقظ في الصباح فزعاً يتلفت حوله ويصيح منادياً على رانيا التي لم تكن بجواره ولا يعلم متى خرجت من الغرفه، أسرع بالبحث عنها لكنه لم يجدها، أمسك بالهاتف واتصل بها لكن هاتفها كان مغلقاً، كاد يستشيط غضباً، فارتدى ملابسه وسارع إلى مطعم الباخرة لكنه لم يجدها أيضاً، غمغم في سخط:
- " لأ بقى مش تاني!!"
اتجه راكضاً إلى سطح الباخرة وكانت المفاجأة بانتظاره!!!!!!!!